رشيد سعدي – المغرب :
في مدينة الرباط، اختار مغربيٌّ ذو أصول مسلمة الإيمان المسيحي منذ سنوات. أمسَك بيد زوجته المغربية الحامل التي تشاركه في نفس الإيمان، وهو يتطلع أملًا إلى أن يستطيع ابنهما القادم أن يعيش إيمانه بحرية في بلده، وينعم بكل الحقوق الدينية التي ينعم بها المسلمون. قد يكون هذا مؤلمًا بعد خمسٍ وسبعين سنة من إعلان الشرعة العالمية لحقوق الإنسان!
لا يزال النقاش مستمرًّا حول إشكالية المغاربة الذين اعتنقوا دينًا آخر غير الدين الرسمي للدولة، وأيضًا لا تزال مطروحةً في الدول ذات الأغلبية المسلمة إشكاليةُ التدبير السياسي للتعددية الدينية. يصاب المرء بالإحباط بسبب التناقض بين فلسفة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وأخلاقياتها واللغة الدينية والفقهية التي لا تزال تحكم سياسيًّا هذه الدول؛ ما يُسائل قدرة المؤسسات الدينية على بناء نموذج فكري، يتجاوز علاقات الهيمنة إلى المواطنة الحاضنة ليس للتعددية الدينية فقط، ولكن أيضًا للحريات (حرية المعتقد، والضمير، والتفكير).
عرَف المغرب تحولات إيجابية، خصوصًا بعدما أعلن العاهل المغربي أكثر من مرة أن "ملك المغرب هو أمير المؤمنين، المؤمنين بجميع الديانات"، وليس فقط المسلمين، مؤكدًا: "إننا بوصفنا أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، نضع على عاتقنا حماية حقوق المسلمين وغير المسلمين على السواء".
لا شك أن الفكرة السائدة هي أن الأمر يتعلق هنا بالمسيحيين القادمين من الدول الأخرى والمقيمين في المغرب، وليس بالأقليات الجديدة التي تشكلت في المغرب: كالأقلية الشيعية، والمسيحية أو البهائية، والتي منحت التعدديةَ الدينية في المغرب ترسُّخًا اجتماعيًّا لا يزال كثيرون يجدون صعوبة في تقبُّله. لكن النقاش العام في المغرب حول التصريح الملكي، سمح باقتراح تأويلات إيجابية لمقولة "إمارة المؤمنين" الحاضنة لكل المؤمنين، حيث الهوية الدينية للدولة تصبح ضمانة قانونية للتعددية ولحرية تغيير المعتقد. وقد ركز كل المغاربة المنتمين إلى أقليات دينية غير مسلمة أو غير سُنية على ما سمَّوه "المعنى المنطقي والمعقول لمفهوم إمارة المؤمنين"، وهو الاعتراف بالمغاربة غير المسلمين أو غير السُّنة.
في هذا الإطار، وجَّه المغاربة المسيحيون إلى العاهل المغربي رسالة جِدَّ مُعبِّرة، أكدوا فيها: "تشبُّث خدام ورعاة الكنائس البيتية ورعايا أمير المؤمنين بوطنيتهم". وأيضًا أطلقوا مواقع على وسائل التواصل الاجتماعي للتعريف بقضيتهم، والترافع عن حقهم في المواطنة الكاملة، أشهرها موقع "مغربي ومسيحي"، تقول فيه مغربيةٌ مسيحية: "اخترتُ أن أتبع المسيح وتعاليم السيد المسيح، من السلام والمحبة والاحترام والمواطنة الصالحة".
يعني كلُّ ذلك ضرورةَ إعادة فهم المقولات الدينية في كل العالم العربي، ومنْحَها دلالات دينية وسياسية جديدة، من أجل القطع مع النزعة التأحيدية التي تُلْقي بالتعدد الديني غير الإسلامي، المنبثق من داخل الجماعات الدينية المسلمة، في دائرة اللااعتراف، وتَحكُم عليه بالبقاء في مساحتَي الظل والصمت. فمقولة "جلب وإقامة مصالح الأمة ودرء المفاسد عنها" تعني أيضًا الحفاظ على المواطنة الضامنة للسلم الاجتماعي والعدالة؛ أما فيما يخص مقولة "تحصين الهوية الدينية" أو الحفاظ على "الأمن الروحي" للمواطنين المسلمين في إطار الثوابت الدينية، فهي تتناسى أن الهوية لم تعُدْ مُعطًى قبَليًّا وحتميات اجتماعية، بل اختيارات فردية أو جماعية. لكن يا للأسف، لا يزال هناك خطاب ديني يربط فكرة الدولة المسلمة الحاضنة للحريات بمقولات الفتنة و الطائفية، متناسيًا أن الفتن الطائفية لم تكن نتيجة للتعدد، بقدر ما كانت نتيجة سياسات تمييزية قاتلة للمواطنة، خلَقَت جماعات دينية بدون ولاء للوطن.
أيضًا يجب إعادة فهم كون الإسلام هو الدين الرسمي للدولة. ففي العالم دول كثيرة تحيل دساتيرها على دين رسمي، كالمسيحية مثلًا، لكن ذلك لم يمنعها من الاعتراف بالحريات الدينية في إطار الحياد الديني للدولة، إذ استطاعت أن تمنح مرجعياتها الدينية دلالات إيجابية في تناسق مع قدسية حرية الضمير النابعة من الكرامة الإنسانية. لهذا، فإن الهوية الإسلامية للدولة لا تعني مطلقًا إجبارية أن يكون كل مواطنيها مسلمين بـ"الولادة". فإسلامية الدولة يجب أن تحيل إلى نظام أخلاقي وقانوني ضامن للحرية الدينية، وحاضن للتعددية.
هكذا، ننتقل عبر اجتهاد لاهوتي وفقهي شجاع، من الأمة الدينية إلى الأمة المواطنية، ومن فقه "أهل الذمة" أو فقه "الأقليات غير المسلمة" في "دار الإسلام" إلى فقه المواطنين الأحرار، الذين يملكون حق إعلان دينهم وممارسته علنًا، دونما أن يجري اعتبار ذلك "زعزعة" لعقيدة المسلمين. وإذا كان المسلم "لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، فلا معنى لأنْ نترافع عن حقوقنا الدينية ونمنحها شرعية أخلاقية، ثم نرفض منح الآخرين هذا الحق بحجة أنهم أقلية "منشقة" أو "مرتدة". فذلك يعني أن الإيمان ليس هو ما يحركنا، بل غواية القوة والهيمنة.
يجب ألَّا ننسى أنه في المغرب، كما في بلاد عربية كثيرة، لا يزال مواطنون كثيرون يحلمون بأن يصبحوا يومًا على وطنٍ يحتضن كل أبنائه!