سونيا عاتي:
برغم المشهد المعقّد والمشكلات التي تعيشها ليبيا، بالجملة والتفصيل، من عقبات سياسية وتدخلات أجنبية وشحّ في السيولة النقدية واقتصاد منهار وبنية تحتية مهترئة وصراعات مسلحة وخطف وقتل وأسر، إلا أن المرأة الليبية تبقى السبيل الأقرب لتحقيق أي انتصارات واهية على حسابها، وفرض الوصاية عليها وتحميلها هنّات المجتمع وسقطاته الأخلاقية.
آخر تلك المهازل هي "استمارة الطائرة النسائية"، إذ وزع الأمن الجنائي في طرابلس استمارةً خص بها المسافرات وحدهن، في متنها أسئلة عن المرافِق: "ما سبب عدم وجود مرافق؟ وهل سبق لك السفر دون مرافق؟" ويرى البعض أن قضية التنصير التي أنتشرت في الاونة الأخيرة في ليبيا والعدد الكبير الذين تم ايقافهم على خلفيتها ومن بينهم اعلاميات وصحفيات، هي من الأسباب الرئيسية التي دعت جهاز الأمن الداخلي لتوزيع هذه الاستمارة على المسافرات وحدهن.
مطار معيتيقة... المُرافِق قبل تذكرة السفر
تقول رئيسة تحرير صحيفة الصباح الليبية، فتحية الجديدي، لرصيف22، عما حصل معها في مطار معيتيقة: "كنت قاصدةً تونس للمشاركة في معرض الكتاب الدولي. في المطار فوجئت بهم يقدّمون لي نموذجاً لتعبئته يحتوي على أسئلة مستفزة ومهينة عن سبب عدم وجود مرافِق لي؟ وهل سبق لي السفر قبل ذلك دون مرافق؟ رفضتُ في البداية تعبئة الاستمارة، لكن موظف الجمرك، أخبرني بأنها تعليمات أمنية وبأنه لن يتم قبولي على متن الطائرة في حال الإصرار على الرفض".
تصف رئيسة تحرير صحيفة الصباح، ما يحدث في المطار مع النساء بأنه اختراع ذكوري من عقلية أرادت أن تردّ المرأة إلى الخلف، في حين يسافر الشباب ممن هم دون سن النضج ويقعون في مشكلات قد تكون هي ذاتها وراء القصد من تجنّب وقوعها للنساء في أثناء سفرهن. لماذا أساساً يكون الحفاظ على كيان المرأة وسمعتها بهذه الطريقة المهينة؟ ولماذا تُجبَر المرأة على تعبئة بيانات عنصرية مقيتة؟
النفوذ الإسلامي وتحقير المرأة الليبية
بدأ الإعلامي خليل الحاسي، حديثه إلى رصيف22، قائلاً: "هذا الإجراء التعسفي التمييزي الذي يفرضه الأمن الداخلي ضد المرأة الليبية مؤشر على تزايد نفوذ التيار الإسلامي وسيطرة أجندته العقائدية على الأجهزة الأمنية".
وتابع خليل: "إن فرض تعبئة نموذج سفر على المرأة الليبية التي تسافر بمفردها ينتهك خصوصية معلوماتها ويعرّضها للخطر في غياب جهة مستقلة يمكنها حفظ هذه المعلومات، كما أنه يشكك في أخلاق الليبيات ووطنيتهن، والأهم أنه يصوّر المرأة الليبية ككيان ناقص الأهلية يحتاج إلى وجود مرافِقٍ رجل في أبسط نشاط بشري عادي وهو السفر".
ويتزامن ذلك مع أزمة اقتصادية وسياسية وأمنية في ظل وجود المرتزقة والمقاتلين الأجانب في ليبيا ومحاولة الأجهزة الأمنية، مثل الأمن الداخلي، البحث عن انتصارات سهلة لرفع شعبيتها.
الصدمة التي ولّدتها الاستمارة والأسئلة التي تحتويها، أظهرت بشكل كبير تخوّف بعض الليبيين من عودة القمع باسم الدين والشريعة، ومن الطبيعي أن يبدؤوا بالمرأة لأنهم يعدّونها عنصراً ناقصاً ومواطنةً درجة ثانية، كما يقول عبد السلام بوطو، لرصيف22، ويضيف: "رهانهم سيكون خاسراً، لأن نساء ليبيا يعرفن أنفسهن، لكن رجالها خرسان أمام التطرف الديني الذي اجتاح البلاد. فليفرض زعيم ميليشيا الأمن الداخلي لطفي الحراري، قراراته وخياراته على الكاهن الأكبر وعلى مستعمري البلاد المتربعين على السلطة، أم أن أعوانه لن يقبلوا بتطرّفه عليهم؟ الحراري يعرف البلاد، ويريد اللعب على عصب الشريعة والدين، ولكنه أيضاً يعلم جيداً أنه لا يوجد رجال يردّون عليه قرارته البائسة، التي لن توقف نساء هذه البلاد اللواتي يسطّرن التاريخ برغم المآسي والمصاعب التي يواجهنها".
الحقوقيات وثوابت ليبيا
التقى رصيف22، بالحقوقية الليبية رزان مغربي، التي بدا لها الموضوع ذا أبعاد أخطر مما نظن بكثير إذ قالت: "هم يريدون التلاعب بثوابتنا، وهي ثقافة دخيلة وهذا تخاتل على القوانين وإجراءات السفر". وأكملت رزان: "من الثقافة الليبية المتجذرة، أن للمرأة الليبية مكانةً عاليةً، ولطالما افتخرنا بأن ثقافة المجتمع وعاداته كانت سابقةً على قوانين الأسرة وما يخص حقوق النساء، برغم أنها لم تشهد تطوراً وتحقق مكتسبات جديدةً، لكن ما الذي يحدث اليوم لتتم سرقة تلك الحقوق؟ كيف يُطلب منها في أثناء السفر بمفردها أن ترد على استجواب فيه إذلال ومهانة؟ ولنفترض أن كابتن الطائرة سيدة، هل تُطلب منها كتابة رد على أسئلة تمس كرامتها وتعني عدم الثقة بها؟ من سمح لجهاز أمن أن يتلاعب بالعادات الليبية التي تمنح المرأة الثقة الكاملة بل تحترمها، وخذ أمثلةً من برقة التي تُنسب قبائلها إلى أسماء النساء بكل فخر؟ والسؤال لرئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، والطوارق الذين ينتمي إليهم السيد موسى الكوني نائب المجلس الرئاسي. إذاً، هناك ثقافة دخيلة وتتدخل لتعلو فوق القوانين التي تنطبق على الرجال والنساء في حرية التنقل والسفر؟ نريد معرفة من وراءها ولا يجب السكوت على مثل هذه التصرفات التي تظهر بين فترة وأخرى لتعيق حركة النساء الليبيات، وانتبهوا فللأسف الشديد معظم التصرفات المخلّة خارج ليبيا وداخلها، كانت من الرجال وليس النساء".
وتضيف: "أفترض اليوم أن تعترض السيدات اللواتي في مناصب وزارية على هذا الإجراء أولاً، لأنه يمسّ كل امرأة ولم يستثنِ أي واحدة منهن".
وفي سياق آخر، رأى الناشط الحقوقي والسياسي سيفاو تواوا، الأمر من جانب حقوقي عالمي لا يقتصر فقط على ليبيا. وعند حديثه إلى رصيف22، بخصوص إجراءات تقييد سفر المرأة الليبية من دون مرافق، قال إن هذا الإجراء يعبّر عن انتهاك مباشر لقيم حقوق الإنسان وهو تعدٍّ صارخ على كل المواثيق والعهود الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والتي منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صادقت عليه ليبيا سنة 1976، وكذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي انضمت إليها ليبيا في 1989، وبعض القوانين الليبية، ومنها قانون 20 لسنة 1991، بشأن تعزيز الحرية والذي ينص في مادته الأولى على أن المواطنين ذكوراً وإناثاً أحرار متساوون في الحقوق ولا يجوز المساس بحقوقهم.
وناشد سيفوا، من خلال رصيف22، "كل الفئات والحقوقيين والصحافيين الأحرار بأن يقولوا كلمة العقل وأن يقفوا ضد هذه الانتهاكات حتى لا تعيش ليبيا من جديد أسوأ أنواع ديكتاتوريات العصر الحديث".
وبخصوص المرجعيات الدينية للإجراءات والقوانين: يجب أن يعي الليبيون وشعوب العالم الثالث بأن العالم يتطور والحياة والظروف والمعطيات اليوم ليست هي نفسها قبل مئات وآلاف السنين، فلو أخذنا مسألة السفر كمثال وطرحنا السؤال التالي: هل السفر قبل مئات السنوات كان عبر وسائل نقل قادرة على إيصالك إلى وجهتك خلال ساعات قليلة؟ هل كانت الطرق مؤمّنةً بالدوريات الشرطية والمراقبة الأمنية؟ هل كانت هناك وسائل اتصال عند الضرورة؟ إذاً لا يجب أن نقارن الأمس باليوم فسابقاً كان السفر خطراً حتى على أعتى الرجال".
دولة تمتهن كرامة نسائها
القضية أصبحت شغلاً شاغلاً للّيبيين على مدى أيام، ولم تقتصر على النساء فقط، فكل الشرائح أظهرت وعياً ملحوظاً في هذه القضية، وهو ما لمسناه من الناشطة فدوى سامي، عندما بيّنت لرصيف22، ما تعيشه المرأة الليبية قائلةً: "في كل مرة نسعى فيها من أجل الكرامة نجابَه بكلمة المرأة الليبية 'مكرّمة'، ثم تُشنّ ضدنا حملات الكراهية! شاركتني مجموعة من السيدات الليبيات قصصهن، وهن يُجبَرن على ملء تلك الاستمارة، ومدى إحساسهن بالإهانة والإذلال، في حين يمر الذكور، حتى القُصّر منهم، بشكل عادي! يكفل القانون الليبي الحق في التنقل دون تمييز ولا يوجد أي نص محلي قانوني يجرّم ذلك أو يمنعه، كما يكفل الدستور المؤقت (الإعلان الدستوري)، الحق للمواطنات والمواطنين في التنقل دون تمييز بناءً على المادة 14".
وتضيف فدوى: "تحاجج شريحة من العامة بأن الدين لا يكفل هذا الحق وهذا غير صحيح فالمذهب المالكي الذي تتبناه ليبيا يكفل هذا الحق، وقد تبنّته المذاهب الأخرى كلها عن المذهب المالكي في ما بعد".
من المضحكات المبكيات أن رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، كان قد ألقى كلمات تكريميةً للمرأة الليبية في يومها في 26 نيسان/ أبريل الماضي، وشدد على احترامها! في الوقت نفسه الذي يقوم فيه جهاز الأمن الداخلي بإجراء غير قانوني لامتهان كرامة الليبية وعرقلة حياتها".
وواصلت: "البعض من المتعصبين قالوا لنا إنه مجرد استبيان، وهذا طبعاً غير صحيح، فالاستبيانات ليست اجباريةً ولا يترتب عليها حرمان أحد من الحق في التنقل بناءً على إرادة فردية لشخص ما في مخالفة للقوانين والدستور والأعراف الليبية! الأمر لم يقف عند هذا الحد، فهناك سيدات شاركنني كصحافية الاتهامات التي تُكال للمرأة الليبية بالإلحاد والتنصير وسوء الأخلاق كمبرر لملء هذا النموذج حتى أنه تم منع الصحافية ربيعة حباس، من تغطية ندوة عن حملات التنصير، وقيل لها إن هذه الندوات فقط للرجال وتُمنع عنها النساء".
ماذا يعني ذلك كله؟ في ظل صمت كامل للدولة عن هذا الانتهاك، يدّعي البعض أن هذا الجهاز غير تابع لوزارة الداخلية ولا لرئاسة الوزراء! وأنه يملك صلاحيات في ما يفعل! لمن يتبع إذاً؟ وما الهدف من هذه الاتهامات المغرضة والإجراءات غير القانونية والانتهاكات التعسفية ضد المرأة؟ أما كان أولى بهذا الجهاز إيقاف الجريمة والعصابات والقتل والخطف...؟ المرأة الليبية مواطنة وليست "ملطشةً" لعجزكم عن أداء مهامكم لوقف الجريمة وإلصاقها بها والتبلّي عليها. نحن اليوم على مشارف انتكاسة حقوقية وضعف وعي عام، وكره للنساء لم نرَ له مثيلاً. نناشد الجميع للوقوف مع المرأة الليبية في محنتها. المرأة الليبية لم ترتكب المجازر ولا الجرائم...
المرأة الليبية لم تعِث في الأرض فساداً، ولم تسرق وتعذّب وتخطف وتقتل وتستعبد الناس وتتاجر بحيواتهم….. لا يمكن أن تقوم دولة تمتهن كرامة نسائها.
رصيف 22