محب سمير:
في كل مرة يتجدّد فيها الحديث عن "عدد المسيحيين" في مصر، أشتمّ رائحة الإثارة، وتتفعّل عندي قرون استشعار المؤامرة. فمن بين أحاديث عدة شائكة في مصر، يأتي موضوع "عدد المسيحيين" على رأس هذه التابوهات والمحظورات، التي يفضل عدم الخوض فيها، سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي.
كما لا توجد إحصائيات رسمية حديثة لعدد المسيحيين في مصر. كلها مجرّد "تقديرات"، إما لبعض الجهات الحكومية أو المؤسسات الحقوقية الدولية. لكن على المستوى الشعبي، فنحن شعب يحب لعبة الأرقام وسباق الأفضلية، نبحث لنعرف من الأكثر ثراء ونحن لا نجد اللقمة ومن الأكثر عدداً حتى لو كان "العدد في الليمون". شعب يفتخر بـ"الأكثرية"، حتى لو كانت لعدد جمهور نادٍ رياضي لا يملك حق تذكرة مباراة له في الاستاد.
لكن ما الذي دعا البابا تواضروس الثاني مؤخراً ليفتح السيرة مجدداً، بقوله "إن عدد المسيحيين في مصر15 مليوناً، و2 مليون في بلاد المهجر"، وذلك أثناء لقائه مع صحفيي الملف القبطي بالمركز الإعلامي للكنيسة القبطيَّة الأرثوذكسية، السبت الماضي. هل الأمر بهذه البساطة يا سيدنا؟ هل الرقم صحيح، رغم أنك صرحت منذ خمس سنوات نفس التصريح وبنفس الأرقام؟ ألم يزد العدد مطلقاً؟ لا يهم، فالرقم لا يهم ولن يعدّ أحد وراء البابا. ما يهم هو توقيت التصريح الذي جعلني أتذكّر أن موسم الانتخابات الرئاسية في مصر قد بدأ. رغم تأكيد قداسته في نفس اللقاء أن الكنيسة القبطية، التي تعتبر أقدم مؤسسة وطنية في مصر، لا تتدخل في السياسة ولا تعمل بها طوال تاريخها، وإن كانت كل مشروعاتها تخدم الوطن.
أن عدد المسيحيين في مصر لا يتم ذكره بين "عنصري الأمة" إلا في مسألتين فقط لا ثالث لهما، الأولى: وقت الانتخابات، والثانية عند الحديث عن بناء كنائس جديدة، ويحدث ذلك غالباً في أعقاب كل جريمة طائفية تحدث، بسبب بناء أو تجديد كنيسة. لكن في النهاية، لا أحد يستطيع أن يؤكّد على رقم بعينه للعدد الصحيح للمسيحيين المصريين. ولا غيرهم، الحقيقة أن مصر بها أزمة بيانات وأرقام طول الخط. قال أبي ذات يوم، إن قائمة المستحيلات أصبحت أربعة، بإضافة عدد المسيحيين في مصر إلى العنقاء والغول والخل الوفي.
المرّة الأخيرة التي جاء فيها الحديث عن تأثير عدد المسيحيين في مصر سياسياً، كانت إبان ثورة 30 حزيران/ يونيو في عام 2014، التي أطاحت بالرئيس الراحل محمد مرسي، يومئذ، روّجت جماعة الإخوان بين العامة أن المسيحيين هم المسؤولون عن رحيل رئيسهم، والمجيء بنائبه "السيسي" إلى سدّة الحكم بعد ذلك. رغم أن الجماعة، ومن يؤيّدها ومن يتعاطف معها، كانوا يتشبثون برقم 5 ملايين كعدد تقريبي للأقباط في مصر، حسب تصريح حكومي في عام 2011 استفزّ الأقباط في مصر، وتحوّل الأمر إلى معركة. بعدها بعامين فقط، أصبحت الأقلية و الملايين الخمسة للمسيحيين في مصر قادرة على الإطاحة بالرئيس في 2013. وحتى اليوم يتعامل التيار الإسلامي في مصر كما يتعامل المواطن السلفي البسيط في الشارع، معتقداً أن المسيحيين في مصر هم الذين أطاحوا برئيسهم وأصواتهم في الانتخابات قادرة على التحكّم في من يحكم مصر. رغم ذلك لا تجد نائباً مسيحياً في مجلس الشعب المصري استطاع الفوز بالمقعد عن طريق الانتخابات، جميعهم يقوم بتعيينهم الرئيس بنفسه، كمسألة تجميلية تخزي عين من ينبش عن التمييز وأشكاله.
المؤكد أن الرقم الذي ذكره البابا تواضروس، معتمداً على شهادات "المعمودية" أو كشوف الافتقاد وعقود الزواج، غير صحيح، سواء بالزيادة أو النقصان، فهناك مثلاً مسيحيون في مصر ينتمون إلى طوائف أخرى غير الأرثوذكس، مثل الإنجيليين والكاثوليك، فهل شمل الرقم الذي ذكره البابا هؤلاء أيضاً، وهم ملايين بالمناسبة؟ ثم ما الفائدة التي قد تعمّ، أو تخص، الأقباط بمعرفة الرقم الحقيقي لعددهم في مصر؟ هل سيتم المطالبة بتمثيل عادل لهم في المجالس المحلية والتشريعية والقضائية وقيادات الجامعات، والمنتخب الوطني لكرة القدم، بناء على عددهم كأقلية بالملايين؟ ما الحقوق التي يمكن إضافتها لأقباط مصر في ظل العلاقة القوية والوردية بين الدولة والكنيسة اليوم، سواء في بناء الكنائس الجديدة أو في تشريعات قانون الأحوال الشخصية الجديد لغير المسلمين، والتأييد المطلق من الكنيسة للسلطة في مصر على طول الخط؟
أن مسألة عدد المسيحيين في مصر، سواء خمسة ملايين أو حتى 50 مليون، لا يهم، طالما ظلّ الرقم غير فاعل في الحياة الاجتماعية والسياسية، ولا يظهر تأثيره وقوته إلا بتوجيه الكنيسة التي يعيش دائماً في حضنها، تتولى كل شؤونه، وتقيه شر العالم الخارجي. ما فائدة الكنائس طالما لا يوجد مؤمنون؟ ما فائدة المساجد التي لا يدخلها أحد؟ ما فائدة الملايين لو ارتضت بالظلّ وصدقت أنها أقلية مضطهدة في عالم شرير يفضل الابتعاد عنه؟
ثمة تساؤل آخر، عن تعامل الدولة المصرية مع ملف عدد الأقباط بهذا الشكل من الحيطة والكتمان. ما الضرر الذي قد يحدث لو تم الإعلان عن عدد المسيحيين في مصر من قبل الجهات الرسمية، بكل صراحة ووضوح؟ وقد حدث الأمر من قبل في الستينيات والسبعينيات. أن تعلل الحكومة المصرية دوماً أن هذا النوع من الإحصاءات فيه شبهة طائفية وتمييز تفضل الابتعاد عنه، ورغم منطقية الحديث، إلا أنه ينطوي على تجاهل واضح من الدولة للتعامل مع ملف الأقباط في مصر بشفافية، وأنها لازالت تعتبر عدد المسيحيين في مصر مسألة أمن قومي.
إن الطائفية والتمييز يظهران بوضوح للمواطن المسيحي في كل تعاملاته اليومية مع موظفي المصالح الحكومية والمدارس والجامعات الحكومية، ولا يحتاج المسيحي أحداً لتذكيره بها.
في قرقوش، أقدم البلدات المسيحية الواقعة في سهل نينوى في شمال العراق، يجلس تلاميذ ثانوية مار أفرام السريانية قبالة أستاذهم صلاح سركيس باكوس محدقين بلوح أبيض كتبت عليه الأحرف السريانية.
يدرّس باكوس البالغ 59 عامًا اللغة منذ أن أدخلت إلى المناهج الدراسية قبل 18 عامًا، ويرى أن تعليمها أمر "ضروري جداً ليس فقط للأطفال بل لبقية فئات المجتمع كذلك" لأن "هذه اللغة تمثل تاريخنا، لغتنا الأم في بلاد ما بين النهرين".
لكن باكوس الذي أحرق تنظيم الدولة الاسلامية مكتبته التي كانت تضم نحو ألف كتاب نصفها سريانية، يبدي قلقه من كون "جيل اليوم لا يبالي بتعلم لغته"، وخصوصا أن "ولي أمره يقول إن اللغة السريانية أصبحت ميتة ولا فائدة منها".
رصيف 22