عامر بدران:
يتم تعريف العلمانية على أنها المبدأ القائم على فصل الحكومة ومؤسساتها والسلطة السياسية من جهة، عن السلطة الدينية ورجال الدين من الجهة الثانية. عربياً، يتم اختصار هذا التعريف في جملة قصيرة هي "فصل الدين عن الدولة".
في التعريف الأول تكمن الفكرة من الفصل، وهي إنتاج دولة مؤسسة غير خاضعة لسلطة رجال الدين، أي أن الدولة بشكلها المدني، أو القانوني، هي بحد ذاتها نتاج لهذا النأي للسياسة عن الدين. الدولة المقصودة هنا هي الشكل المؤسساتي الحديث، الذي يصوغ قوانينه وتشريعاته ويدير مصالحه بعيداً عن التشريع الديني. التعريف الثاني يفترض وجود الدولة المكتملة، ويبني تعريفه من رغبته بإبعاد الدين عنها.
هل هناك فرق كبير بين أن نقول "فصل الدولة عن الدين" أو "فصل الدين عن الدولة"؟ وهل هذا الفرق لغوي فقط أم أنه يتعلق ذهنياً بأفضلية أحدهما على الآخر، أو على الأقل أسبقيته؟
لا يبحث هذا المقال في الإجابات بقدر ما يرغب بطرح الأسئلة، ومن ضمن هذه الأسئلة المتولدة من بعضها، ألا نستطيع القول إننا، في العالم العربي، نجحنا في هذا الفصل وقمنا به على أكمل وجه؟
ألا يبدو الدين في بلادنا مفصولاً عن الدولة، ويحكم بالتوازي معها، أو بمعزل عنها، ودون الالتفات لما تسنّه هي من قوانين؟ ليس المقصود هنا ذلك الفصل الذي تتوخّاه العلمانية، بترك مساحة لرجال الدين، داخل الكنيسة أو المسجد، لإدارة الشؤون الدينية "للرعية"، وخلق مساحة لرجال السياسة تحت قبة البرلمان وفي الحكومة لإدارة الشؤون السياسية للشعب. المقصود أن الرعية والشعب كتلة واحدة يدير شؤونها، كاملة، طرفان منفصلان تماماً، ويصدران تشريعاتهما وقوانينهما دون تداخل صلاحيات.
لنذهب إلى الأمثلة قليلاً ونحاول فهمها: تحتفل الحكومات في بلادنا بالثورة العربية الكبرى، تفرز لها فصلاً في المنهاج المدرسي والجامعي، تُدخل ذكراها في خطابات النصر وبدايات تشكّل الدول، وتوعز للشعراء بكتابة الأناشيد عنها. في المقابل، تحتفل المساجد بذكرى سقوط الخلافة العثمانية، تصوغ لها الخطب على المنابر، تتحدّث عن فضائلها وعن خساراتنا منذ نهايتها وحتى اليوم، وتطالب باتحادنا تحت رايتها حين ننتصر وتعود. لا الحكومة التي تحتفل بالمنتصر تحاسب من يحتفل بالمهزوم، ولا رجل الدين الذي يعيش النوستالجيا ويطالب بعودة الخلافة، يدين من يحتفل بالنصر على حلفائه.
تخيّل، في حالة كهذه، كيف يمكنك أن تربي ابنك. ابنك هذا جزء من الشعب وفرد من الرعية، وعليك أن تدلّه، وهو صغير، على مفاهيم الوطن والاستقلال والحرية، والعدو الخارجي، وإن كنت علمانياً ستحاول أن تذكر العلمانية أمامه.
مثال آخر؛ من ضمن وزارات الدولة وزارة من المفترض أنها مهمة، وهي وزارة الثقافة. هذه الوزارة فيها دائرة للمسرح، دائرة للشعر، دائرة للموسيقى وهكذا. من صميم عمل هذه الدوائر هو نشر الموسيقى والشعر لتكون من ضمن أولويات، أو على الأقل، من ضمن اهتمامات الشعب، لكن هذا الشعب نفسه يعرف من خلال ما يصله من حاكم آخر، أن الموسيقى حرام والمسرح حرام والشعر مكروه.
كيف يمكن أن نصنع شاعراً مع المعطيات أعلاه؟ وهل يمكن أن تكون لدى الشاعر فاعلية ثقافية واجتماعية وسياسية، أم أن المطلوب منه أن يكتب الشعر وفقط؟ لا أملك إجابة مقنعة على هذا السؤال، لكنني أعرف من خبرتي ومشاهداتي، شعراء يعتلون المنبر وهم يحملون المسبحة في يد وديوان الشعر في يد. أعرف روائيين تمتلئ نصوصهم بالبطلات العاريات ومشاهد الإيروتيك والجنس، بينما لا يفصحون في الحياة العامة عن أسماء زوجاتهم. أعرف شعراء يدخل النبيذ في معظم قصائدهم وكأنه جزء أصيل من أثاث القصيدة، لكن كلمة بار عندهم محرّمة ولا يجب أن تُستخدم.
لا يقف هذا التناقض على الجانب الاجتماعي وحسب من حياة المثقفين، بل يتعدى ذلك إلى الجانب السياسي والمواقف الأيديولوجية فيه. فبينما نقرأ نصّاً أدبياً، يبدو في ظاهره حداثياً ومتمحكاً بمقولات أعتى فلاسفة التنوير، نجد لنفس الكاتب، حين يقرّر الكتابة أو الحديث في السياسة، خطاباً متحصناً بالتاريخ ومنطلقاً من مقولاته الأصولية.
هل يتحكم بالكاتب أو الشاعر في بلادنا، مخيالان منفصلان عن بعضهما؟ مخيال للشعر مجبول بعناصر الحداثة وبالرغبة في اعتراف الآخرين المشابهين، ومخيال آخر خاص بالمواقف السياسية، يبتغي العائلة ورضاها، والمجتمع وقبوله؟ سؤال آخر لا أجد له إجابة مقنعة.
من الملام من طرفي الحكم في هذه المعادلة وإفرازاتها؟ لا أظن أننا نستطيع لوم الدين، فالدين لا نتعامل معه باللوم أولاً، أما ثانياً، فإن كل محاولات المجدّدين، وكل الكتابات المتراكمة في الفقه الجديد، لم تستطع، على الأقل حتى الآن، أن تكف يد الشيخ عن التدخل في الحكم، وثالثاً، فالدين لا يمكن الإمساك بنموذج واحد منه، فقد استطاع، عبر أربعة عشر قرناً، أن يفرز مئات المذاهب والفرق والطوائف التي لها صراعاتها الخاصة، ومن هذه الصراعات نشأ لدينا مجتمع الفتوى في السياسة والحكم.
العبء يقع كاملاً على عاتق الدولة، فهذه الدولة هي المطالبة بإيجاد النموذج "الجامع هوياتياً" بتعبير أحد المفكرين العرب. وهي المطالبة بفرض هذا النموذج وتعميمه، عبر المناهج والثقافة وأسلوب الإدارة. ولن يتم ذلك إن لم تمتلك الدولة الجرأة أولاً، والأدوات القادرة ثانياً.
لكن الدول في منطقتنا تلعب في مكان آخر كلياً، فهي تستعيض عن مفهوم الفاعلية الثقافية بمفهوم "الأمن الثقافي". لا يعنيها أن تخلق مثقفين لهم فاعليتهم بقدر ما يعنيها أن تكون الأمور بخير وتحت السيطرة، وأن يكون لكل فكرة، مهما كانت حمقاء، منبراً في الحيز العام، بما يضمن توازناً يديم بقاءها وديمومتها. هل يبدو هذا الكلام كمطالبة للدولة بأن تكون دكتاتورية، وأن تمنع أي فكر يمكنه الانتقاص من مكانتها ووظيفتها؟ وهل يوجد دولة غير دكتاتورية أساساً؟
هذه أسئلة لمباحث أخرى تخصّ مفهوم الدولة عموماً، وتخصه في عالمنا العربي خصوصاً، وهي ليست ضمن قدرتي على التحليل الكافي. ما يعنيني من هذه الأسئلة هو التفكير في البيئة الحاضنة التي تنتج شاعراً، يقدم لك منتجاً حداثياً بلغة فقهية، أو روائياً يكتب رواية بلغة عصرية ومضمون متخلّف، أو موسيقياً ينسجم مع شوبان وموزارت، ويمنع أخته من الذهاب إلى مدرسة مختلطة. أظن أن الأمن الثقافي يفسّر هذه الظاهرة، وهو من يخلق "مثقفين" مؤمنين وكفرة في الوقت ذاته.