د. أيوب أبودية :
وُلد بوذا في القرن الخامس قبل الميلاد في شمال الهند، وأطلق الناس عليه هذا الاسم بمعنى «المستنير». وقد استحق بوذا هذا اللقب بعد أن مارس فهمًا عميقًا لطبيعة الحياة عبر تجاربه وممارساته الحياتية المميزة التي تركت أثرًا كبيرًا في نفوس البشر، حيث يعد أتباع البوذية اليوم أكثر من نصف مليار نسمة، وتصنف البوذية أنها «الديانة» الرابعة بعد المسيحية والاسلام والهندوسية.
عاش بوذا في شبابه حياة مريحة رغدة في قصر والده، ولكن بمجرد أن غادر جدران قصره اكتشف بؤس الحياة في القرى خارج قصره، والمتمثل في الشيخوخة والمرض والفقر والجوع الذي يتعرض له الناس. لذلك بدأ في البحث عن طريقة للتغلب على هذا البؤس والشقاء من خلال التأمل للوصول إلى مرحلة الاستنارة بحثا عن الحقيقة. فماذا كانت اقتراحاته للوصول إلى مرحلة التنوير ومعرفة حقيقة الحياة وما بعدها؟
لم يعلّم بوذا الناس ما اختبره شخصيًا كي يصبح مستنيرًا. فبدلاً من ذلك، علمهم كيفية تحقيق التنوير بأنفسهم عبر تجاربهم الخاصة. لقد علمهم أن الصحوة تأتي من خلال التجربة الشخصية للفرد، وبالتأكيد ليس من خلال المعتقدات التقليدية. واعتقد أن الأسئلة الفلسفية التقليدية حول طبيعة الكون والإنسان لا تقود إلى أي نتيجة، لكنه عدّ الوصول إلى مرحلة التنوير ضرورة لإنهاء دورة تكرار الولادة التي تستمر إلى ما لا نهاية (التناسخ)، وبالتالي فإنه ينبغي إيقاف المعاناة التي يمر بها الانسان عبر مسار روحي يتضمن الإيمان بفكرة «الكارما»(Karma)، حيث تجني ممارسة الأعمال الحسنة أو الفضائل نتائج طيبة ومكافآت في الحياة الدنيا لمن يفعلها، والعكس صحيح مع السيئات والأعمال الشريرة. وهذه فكرة تتجاوز الثواب والعقاب في الآخرة عبر الجنة والنار كما تقدمها الأديان التوحيدية، مثلا، رغم أنه يُعتقد أن آثار «الكارما» قد تتجاوز حدود الحياة الحالية، وأنها تؤثر أيضًا على تجربة الفرد في الحياة اللاحقة من خلال التجسد الجديد للروح في حياة مستقبلية.
اعتقد بوذا أن الحقائق النبيلة في هذه الحياة هي: أولاً: الحياة من دون استنارة هي حياة مليئة بالألم والتعاسة. وثانياً: يمكن أن يساهم التأمل والتجربة الشخصية المباشرة في فهم حقيقة التنوير، لذلك حث الناس على الاعتماد على تجاربهم الشخصية وعدم قبول نتائج تجارب بوذا الشخصية أو غيرها. ثالثا: التحرر من دورة الحياة المستمرة (التناسخ) تتطلب كبح جماح مشاعر الرغبة الشديدة في اقتناء الأشياء الدنيوية، ورفض كل ما من شأنه أن يسبب الألم والتعاسة للآخرين. رابعا: لمحاكاة طريقة بوذا في تحقيق التنوير، فإنه يستلزم التدريب على ممارسة الحكمة والأخلاق الحميدة والعقلانية الحقيقية والتركيز.
فالمسألة هنا ليست فقط «الإيمان» بالتعاليم، ولكن فهمها واختبارها في مقابل التجربة الشخصية للفرد. إذ وعظ بوذا أنه يمكن تحقيق التنوير دون الإيمان بأي آلهة، لأن هذا الاعتقاد ليس مفيداً للوصول إلى مرحلة التنوير-الحقيقة. وليس هناك أدنى شك أن هذه الخطوات التنويرية سوف تؤثر في فلسفة هيوم وكانط وشوبنهاور وفلاسفة أوروبيين آخرين. فمثلا، قام شوبنهور بدمج المفاهيم البوذية، مثل المعاناة والرغبة والطبيعة الخادعة للعالم، في صميم فلسفته. ورأى شوبنهاور في البوذية مصدرا للحكمة التي وفرت بديلاً للتأكيد الغربي على الفردية والسعي وراء الرغبات.
يعتقد البوذيون أن الأفعال التي يقومون بها اليوم سوف تؤثر على سعادتهم في المستقبل القريب. ويُطلق على هذا المبدأ اسم «الكارما»، وهو يحرض البوذيين على أن يكونوا مسالمين ومحترمين ولطيفين وأن يظهروا التعاطف مع جميع الأشخاص الذين يعانون في هذه الحياة. وهذا الموقف اللطيف والإيثاري يساعدهم على التغلب على السموم الثلاثة: الجهل، والجشع، والكراهية. وفيما يلي المبادئ الأخلاقية الخمسة التي يتبعها البوذيون لعيش حياة أخلاقية جيدة للتغلب على السموم الثلاثة:
أولا: أن يمتنع الإنسان عن قتل الأرواح، أي قتل أي كائن حي. وثانيا: الامتناع عن أخذ ما لا يُعطى بحرية، أي السرقة. وثالثا: الامتناع عن إساءة استعمال الحواس أو سوء السلوك الجنسي. ورابعا: الامتناع عن الكذب أو النميمة. وخامسا: الامتناع عن المسكرات التي تُذهب العقل، كالمخدرات والكحول وما إليهما.
هذه التعاليم هي قاعدة أخلاقية ذهبية تشترك فيها جميع الديانات المعروفة، والتي تعكس طبيعة الأخلاق التي تولد وتترعرع في مجتمع متطور يتمتع بعلاقات اجتماعية ناضجة ومترابطة. ولكن ذلك لم يمنع من وجود عنف وكراهية مارسها البوذيون عبر تاريخ البشرية، فبينما ترتبط البوذية عموماً بتعاليم السلام والرحمة واللاعنف، فقد شارك بوذيون في أعمال عنف ضد أشخاص من عقائد أخرى، كما فعلوا في ميانمار (بورما سابقًا)، فكانت هناك تقارير عن أعمال عنف ضد أقلية الروهينجا المسلمة، حيث أسفرت الحملة العسكرية عام 2017 عن انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل والعنف الجنسي والتهجير. وكذلك في سريلانكا التي شهدت حربًا أهلية عنيفة طويلة الأمد بين القوات الحكومية، المكونة في الغالب من البوذيين السنهاليين، ونمور تحرير تاميل إيلام (LTTE)، وهي مجموعة انفصالية تتكون في الغالب من الهندوس. وأيضا في اليابان حيث كانت هناك حالات شارك فيها الرهبان البوذيون في نزاعات مسلحة.
خلاصة القول إن البوذيين لا يؤمنون بإله، ولا يعدون بوذا نبياً؛ لذلك فإن المبادئ الخمسة السابقة هي مجرد أفعال أخلاقية مقترحة لتنظيم العلاقات الإنسانية، وليست وصايا إلهية. اذ يختار البوذيون بحرية تامة التصرف بطريقة أخلاقية جيدة بهدف تحقيق التنوير والسعي إلى أن يكون كل عمل من أعمالهم عملا جيداً وأخلاقياً هادفاً إلى كسر حلقة «السامسارا» (Samsara)، أي تكرار الولادة في شكل أعلى وأرقى (التناسخ)، وهي حالة من المعاناة التي تستمر إلى ما لا نهاية. لذلك فإن البوذية هي فلسفة ومشروع أخلاقي واجتماعي ونفسي يهدف إلى تجاوز معاناة الانسان وقلقه مما يُظن أنه قادم بعد الموت.
جريدة الرأي الأردنية