أسامة خليل
هى بالفعل أيام كئيبة ومحبطة وخنيقة.. لأول مرة منذ انتظمت فى الكتابة قبل ما يزيد على ثلاث سنوات إلى جوار الكوكبة التى تحرر وتكتب فى «المصرى اليوم».. لأول مرة أفكر فى الاعتذار دون عذر أو مانع.
فكيف أتحدث فى الرياضة وأحوالها أو الزمالك وحالته العبثية اليائسة وأنا (مكلوم) ومخنوق ومهموم مثلى مثل كل المصريين- إلا قليلاً- من وجع المصيبة التى نزلت بنا فى كنيستى طنطا والإسكندرية..
ما هذا القتل «المجانى» والعنف الهمجى والقسوة البشعة التى يمارسونها معنا ومع أنفسهم؟ وكما قال شاعرنا الكبير جمال بخيت: «هو دين أبوهم إيه؟».
ما هو الدين أو العقيدة أو الفكرة التى تعطى لصاحبها الإذن بقتل أبرياء مسالمين يمشون فى الشارع أو يتعبدون فى كنيسة أو يصلّون فى مسجد؟ من سمح ووافق لهؤلاء الوحوش بأن يعيشوا بيننا؟ وكيف تربوا حتى وصلوا لهذه الدرجة الوحشية؟
المصيبة التى تزيد الهم هماً والحزن حزناً والغم غماً أن هذه الأسئلة نعيد طرحها فى كل مرة ونتحدث مع أنفسنا بإجابات بعضها «معقول» وبعضها للاستهلاك الإعلامى ونظل أسبوعاً أو اثنين «نمصمص الشفايف» ونذرف الدمع ونواسى بعضنا البعض دون أن نضع خطاً واحداً لحل حقيقى يوقف هذه الدماء، وبت الآن على قناعة أن المشكلة ليست فى الإرهابى أو المتطرف أو حتى المجذوب- إن شئنا فى تسميته- الذى يؤمن بهذه الأفكار الدموية، أو فى الأمن الذى لم يستبق الفاجعة قبل حدوثها أو السلاح والمتفجر الذى وصل ليد المعتوه، فالمعتوه سيرتكب جريمته إذا لم يجد المسدس والبندقية سيدهس الناس بالسيارة.. المشكلة فينا نحن أنفسنا تتكرر الحوادث والفواجع والمآسى ولا نتحرك أو ننفعل إلا بمصمصة الشفاه والطبطبة على أهل الشهيد.. «ودمتم».
كلنا نعلم علم اليقين أن المشكلة ليست فى القنبلة أو أداة القتل، مشكلتنا فى الفكرة التى ألقت القنبلة وشدت الفتيل عن الحزام الناسف فماذا فعل علماء الأزهر وشيوخ الإسلام الأجلاء؟ فهذه المصيبة والأفكار، شئنا أم أبينا، ملتصقة بديننا الحنيف، وهى قبل أن تكون خطراً على الآخرين فهى خطر على الإسلام وعلى الدعوة له والإيمان به، واستمرارها بهذا العنف سيخلق مع الوقت جيلاً يرفض أفكار الإسلام المعتدلة. فكيف يمكن لطفل أو شاب أن يقتنع بما يقوله شيوخنا عن تعاليم الإسلام وسماحته وإعطاء الآخرين الحق فى حرية الاعتقاد وهو يرى صديقه المسيحى يموت ممزقاً قطعاً وهو يصلى لربه فى الكنيسة على يد شخص يدّعى أنه مسلم، وأنه انتحارى شهيد سيدخل الجنة فى أعلى مراتبها؟!
فهذه العمليات الإرهابية تنتقص من الإسلام وتحط من شأنه وتنال من سمعته، وواجب على علماء الأزهر وشيوخنا الأجلاء أن يعلموا أن «صمتهم» وعدم وقوفهم على قلب رجل واحد، ووضع خريطة طريق لهداية هؤلاء المتطرفين أو الشاطحين والوصول إليهم ومواجهتهم. وفى الوقت نفسه علينا أن نجفف منابع أو مصادر هذا الفكر المتطرف، وعلماؤنا وشيوخنا المعتدلون، وعلى رأسهم فضيلة شيخ الأزهر، أدرى من الجميع بمواطن هذه الأفكار، وعليهم أن يجلسوا مع أنفسهم ويتصارحوا ويتناقشوا ويتفقوا ويختلفوا ويخرجوا لنا بخطة عمل تبدأ من الجامع إلى المدرسة للمنزل، ومن الطفل للشاب للشيخ، عليهم أن يواجهونا بأخطائنا فى المجتمع كى نصححها.
صدقونى إذا جاء الكلام من الأزهر الشريف، وخرجت خطة تصويب تلك الأفكار وآلية تنفيذها من هذا المنبر الإسلامى المستنير بعلمائه المعتدلين، سيستمع له العالم الإسلامى والعالم أجمع.. إنه الإسلام (!) ألا يحتاج من أهله وعلمائه أن يحافظوا على تلك الرسالة السامية؟
فالأفعال الإرهابية، وهذا القتل الوحشى، بقعة سوداء تلتصق بالدين مهما حاولنا أن ننفى عنه. فالقتل أقوى من الكلمة ومن بيانات الشجب وأحاديث التليفزيون المجانية عن الوحدة الوطنية، فكيف للقائمين على نشر تعاليم الإسلام والغيورين على الدعوة أن يتركوها مستباحة على مذبح أفكار متطرفة لا تمت للدين؟ فهذا المنحى من الكلام أهم من أن نشغل أنفسنا بالحجاب والنقاب، وحرب السنة والشيعة، والجدل المفتعل حول أزمة تجديد الخطاب الدينى المهترئ.. فاتساع دائرة الدم والتطرف فى مصر والعالم كارثة على الإسلام نفسه وإذا استمرت بهذه الوتيرة قد لن يكون هناك خطاب كى يتم تجديده.
وبمناسبة الحديث عن التطرف والتشدد أجدنى مضطرا أن أسترجع لكم قصة وقعت معى أنا «المسلم» قبل شهرين.. وكنت أصلى العصر فى إحدى الزوايا القريبة من العمل، وبعد أن فرغ الإمام وقمنا بالتسليم نهضت وكنت فى الصف الأول وتوجهت إلى الخلف لأختم الصلاة على مقعد ولم أنتبه أننى مررت أمام أحد المصلين خلفى جاء متأخرا فواصل الصلاة. ووجدته يدفعنى بشكل عنيف فى صدرى - وهو يصلى - حتى لا أمر، فتوجعت وتضايقت، وانتظرته حتى أنهى صلاته ثم ذهبت أحادثه- أو ربما أعاتبه- وسألته: «لماذا دفعتنى بهذا العنف؟»، فقال: «لأنه حرام أن تمر أمامى»، فقلت: «ولكننى لم أقصد، وهل كان الأمر يستحق أن تدفعنى بهذا الشكل العنيف؟».
وهنا تدخل فى الحديث شخص طويل يرتدى جلباباً قصيراً وبنطالاً، وسأل: «ماذا حدث؟ فقلت له ما حدث، ثم واصلت حديثى مع الرجل فعاد هذا الشخص ليتدخل مرة أخرى ليقول: من حقه أن يدفعك، فإن لم تستجب، فمن حقه أن يقاتلك (!) فأنت شيطان (!) وهذا حديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام». ووصل معى الشعور بالاستفزاز لأقصاه، وسامحنى الله على صوتى، وقررت أن أنهى تدخله فى الموقف قائلا: «يعنى انت عايزه يضربنى بسكينة علشان مررت أمامه؟ كلامى انتهى معاك». لكنه رد ببساطة: «مش بقولك انت شيطان» (!) قالها وانصرف، بينما استمر الحديث بهدوء مع الرجل الآخر وخرجنا.
فى مكتبى بحثت عن الحديث الذى استشهد به الرجل فوجدت حديثاً منسوباً إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هذا نصه: «عن أبى سعيد قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: إذا صلى أحدكم إلى شىء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان». رواه الجماعة إلا الترمذى وابن ماجة.
تخيلوا أدخل لأصلى فإن لم أخرج مقتولاً فأنا شيطان.. ومن وقتها لم أدخل تلك الزاوية.
أهمية مثل هذه القصة كى يعلم أشقاؤنا وإخوتنا وأصدقاؤنا المسيحيون أنهم ليسوا وحدهم المستهدفين، فالإسلام والمسلمون مستهدفون مثلهم. وعن نفسى بت محرجاً ولا أملك أن أرفع عينى فى وجه الصديق المسيحى.. فقد انتهت كل كلمات الاعتذار. وكيف أُعيّد عليهم وأقول لهم: «كل عام وأنتم بخير وسلامة»، وهم ليسوا كذلك، فهم ليسوا آمنين ولا سالمين وفى مقدمة المستهدفين، هم ليسوا بخير. ولكن للحق فإن لديهم صبر أيوب وسماحة سيدنا عيسى، وأنا أخاطب فيهم سماحتهم ومحبتهم وروحهم الطيبة وأن يفهموا «أن همّنا واحد وعدونا واحد».. إحنا فعلاً واحد «وعمرنا ما كنا اتنين».
■ ■ ■
ووسط هذه الأحداث المحبطة والمؤلمة، وعلى طريقة مصائب قوم عند قوم فوائد، يقفز من الوسط الرياضى شخص غريب الأطوار والأفعال لينتهز الفرصة ويطالب بإيقاف النشاط الكروى بادعاء التضامن مع الحداد على أرواح شهداء الغدر فى كنيستى طنطا والإسكندرية، والحقيقة أنه يريد أن يهرب بفريقه الكروى من (الوكسة) التى حلت به بسبب تصرفاته وقراراته وقيادته لأربع خسائر متتالية أبعدته عن المنافسة على بطولة الدورى.. فهل هذا أمر مقبول؟ ألا يوجد عاقل فى هذا الوطن يكفينا شر أفعاله وتصريحاته.
المصرى اليوم