ساطع نور الدّين
إنَّ مجرد التّفكير في أن أكبر الطّوائف المسيحيّة العربيّة وأقدمها تشعر الآن برعب حقيقي وتهديد جَدّيّ لوجودها، يُغيِّر مجرى الحديث، ويُعيد البحث إلى الأصول، إلى الجذور.. وإلى المستقبل. إنَّ خوف الأقباط الْيَوْم ليس مُفتعلًا، بل لعلّه لم يكن كذلك في أيّ وقت من الأوقات؛ فالاضطهاد سابق، قديم، وثابت. هُوَ لا يرتبط بهذا الحاكم أو ذاك، بل يتّصل بتقليد راسِخ وسُلوك دائِم، يكاد يكون من مجريات الحياة العاديّة في وادي النّيل، ومن مُسلّماتها المُتوارَثة عَبْر الأجيال.
والمسألة الطّائفيّة في مصر عميقة جِدًا. لعلّها تختزل وحدها "المسائل" الطّائفيّة الّتي واجهها العالم العربيّ والإسلاميّ منذ القدم وما يزال، سواء في المشرق العربي أو في المغرب. ولم تنفع أيُّ عقيدة سياسيّة مصريّة في تسويتها أو حتى في تجاوزها. لقد نجحت بعض العقائد في طَمْسها أو في تحييدها لفترة من الزّمن. لكن هذه المسألة كانت وما زالت جمرًا تحت الرّماد! وانفجار هذه المسألة حاليّا ليس أمرًا طارِئًا، ولا مُفاجِئًا.
إنَّ الإسلام السّياسيّ الآن في أدنى مراتبه وأسوأ مظاهره. واستهدافه للأقباط لم يَعُد يتّخذ شكله الثّأري المزعوم من السّلطة الهجينة، بل بات ينحو نحو الإبادة والتّصفيّة والاستئصال. ومدينة العريش الّتي أُخليت من مسيحييها في فبراير 2017، لا تدع مجالاً للشك في أنَّ "الإسلاميّين الجُدد" يُنادون بالعلن، جميع أُولئك المختلفين عن دينهم ودنياهم بالقَوْل: "أخرجوا من دِيارنا فَوْرًا". تمامًا كما حصل في أنحاء أُخرى من المشرق العربيّ، لا سّيما في العراق، حيث أُقتلع مسيحيّون من أرضهم وأُزيل وُجودهم التّاريخي القديم من قبل "داعش" وسواها من التّنظيمات الإسلاميّة الضّالة.
إنَّ الخَوْف جديّ وقاسٍ، ولا يمكن تبديده الآن باستعادة الكلام المُكرَّر عن فشل الدّولة الوطنيّة وعجز المؤسسة الدّينيّة وتردّي البنيّة الاجتماعيّة إلى آخر هذه الأقوال المُستهلكة! ولا يمكن حَجْبُه بالتّفسير المستهلك لتلك الظّاهرة المتماديّة، والمتمدِّدة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى في تاريخ مصر، والّتي تُعرّف بـ "الفئة الضّالة أو الباغيّة" الّتي خرجتْ على المجتمع وكفّرت جميع أبنائه من دون استثناء. فتلك قراءة غير دقيقة! صحيح أنَّ هذه القراءة قد تفيد في صياغة بيانات الاستنكار والتّعاطف والتّضامن، لكنها لا تُجدي في تحديد سبل الحيلولة دُون المزيد من المجازر المتلاحِقة بحَقِّ الأقباط، وفي العمل على تجنُّب مجيء اليَوْم الذي تُصبِح فيه مصر خالية من مسيحييها. مثل هذا الْيَوْم يدنو، ويُنذر بكارِثة إنسانيّة كُبرى، تُصيب العرب والمُسلمين، وتُغيِّر وَجْه التّاريخ العربيّ والإسلاميّ.
والاعتقاد بأن "الإسلاميّين الجُدد"، هُمْ مجرد ظاهرة مُؤقَّتة، عابرة، ليس له سند واقعيّ حتى الآن. بل لعلّ هذا الكلام هو مُجرَّد أمنيّة تتردّد في اللحظات الحرجة من التاريخ. إنَّ الأدلة على أنَّ أولئك "الضّالين" يتكاثرون يَوْمًا بعد يَوْم، ويُنتجون انتحاريّين أكثر ممّا أنتجته أيُّ جماعة مُقاتِلة في التّاريخ البشريّ، هي أدلّة قويّة ودامغة. والمُؤشِرات على وجود حملة مُنظَّمة من قِبلهم تهدف إلى تصفيّة الوجود القبطيّ في مصر لم تَعُد تحتمل الشّك. والمساعي المُفترضة لإبعادِ الأقباط عن دائرة الاستهداف من قبل الفئة الضّالة، أو على الأقل لحمايتهم من عملياتها الوحشيّة، أخفقت، وثَبَتَ أنَّها أوهن من أن تصمد في ظلِّ تلك الموجة العاتيّة. لقد كان الفشل رسميًا وشعبيًا، لكنه لم يكن حتميًا فهناك ثمَّة فُرص ما زالت مُتاحة، أو يُفترض أن تظل مُتاحة لتغيير موازين القُوى، ولحصر أولئك الارهابيّين في الزّاوية اللا إنسانيّة واللا أخلاقيّة.
أمّا الدّخول في جدل حول مصادر تلك الظّاهرة ومواردها ومنابعها الفكريّة والفقهيّة، فقد صار أمرًا من الماضي، إذ لم يبق منه سوى الاستغلال السّياسيّ أو الدّينيّ أو حتى المذهبيّ، على نحو ما يحصل في بُلدان عربيّة أُخرى تُواجِه مِثل هذا الضّلال، حيثُ تجري نِسبة الظّاهرة إلى دولة مُناهِضة، أو إلى مُؤسَّسة مُخالِفة، أو إلى مركز مُعارِض، أو إلى جهةٍ مُعاديّة! وقد ساهَم هذا الإنكار في صياغة موقف يُبرِّر الإرهاب المُضاد، العلمانيّ أو القوميّ، كما هُوَ الحال في سُوريا والعراق وتُونس خاصّة.
إنَّ أقباط مصر في خطر داهم! لا وقت لأيِّ مُراجعة تاريخيّة أو مُحاسبة سياسيّة أو مُساجلات فقهيّة. ثَمَّة حاجة مُلِّحة إلى مُخاطبتهم مُباشرة، حتى من خارج الدّولة الضّعيفة ومن خارج المُؤسسات السّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة، والوُقوف معهم بحزم أقوى من ذي قبل. بقاء الأقباط في وطنهم شرطٌ من شُروط الوطنيّة المصريّة وركيزة من ركائز الهُويّة المصريّة الّتي كانت -وما زالت- تسمو عن الهويّة الدّينيّة لأيّ مُواطن عربيّ آخر من المحيط الى الخليج!
إنَّ أقباط مصر في خطر. وإذا ما نجح الضّالون في إخراجهم من ديارهم أو حتى في عزلهم داخلها فإنَّ البقيّة الباقيّة من المسيحيّين العرب لن تجدد مُبرِّرًا كافيًا للبقاء في أيِّ بقعة عربيّة أُخرى، كما لن تصمد الفكرة الوطنيّة ولا القوميّة، وبالأولى لن تقوى على محو ذاك الضّلال وعلى إزالة أسبابه.
وسُؤالي : هل تستطيع مصر أن تستمر دون أقباطها؟!