وسام سعادة
هل تبدّلت نظرة المسيحيين للإسلام والمسلمين، بشكل جوهري، منذ عهود الخلفاء الأوّلين والفتوحات الكبرى إلى اليوم، أم أنّ "أوّل نظرة" مسيحية للإسلام والمسلمين ما زالت تفعل فعلها وتفرض إطاراً له قدر من الثبات يضبط الأسلوب الذي يتعامل فيه المسيحيون مع هذه الديانة الإبراهيمية، العربية المنشأ؟
ديانة انتزعت بسرعة خاطفة ثلاث مدن بطريركية (أنطاكية والقدس والإسكندرية) من أصل أربع بحسب التقسيم الكنسيّ القديم، وجاهدت لقرون طويلة كي تظفر بالرابعة (روما، علماً أن الجغرافيا الكنسية لم تضف مدينة القسطنطينية إلى لائحة الكراسي البطريركية الأربعة إلا باعتبارها روما الثانية، ولاحقاً أعتبرت الأرثوذكسية الروسية موسكو روما الثالثة).
من يتابع دعاية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) اليوم، يلحظ جيداً كم يحيل هذا التنظيم إلى هذا الحساب لعدد المدن المقدّسة المسيحية التي على الإسلام انتزاعها كي يربح اللعبة التاريخية الطويلة مع دين الصليب.
فالتنظيم يعتبر فتح كل من روما والقسطنطينية (روما الثانية) في أمر اليوم. دعايته، ومخيلته، تتحرّكان في إطار "جغرافيا المدن المقدسة" المسيحية القديمة إذاً، وهذا معطى لا يمكن تنحيته جانباً عندما يراد فهم كيف يفكّر هذا التنظيم، وكيف يبني تصوّره عن العالم وعن نهاية العالم.
الصدمة الأولى
المسيحية بدورها، أصيبت بصدمة منذ سقوط كراسي شرقها الثلاثة، بحسب جغرافيا كنيستها القديمة، بيد القبائل العربية.
لم يكن للمسيحيين فكرة واضحة عن عقائد الفاتحين الدينية في أوّل الأمر، لكنهم استطاعوا التعرّف مبكراً على حساسية دينية خاصّة عند هؤلاء الفاتحين، تتمثّل بمناهضتهم الواضحة للصلبان المرفوعة في المدن المفتوحة.
دخل العرب هذه المدن والأمصار بعد سنوات قليلة على استعادة البيزنطيين لها من الفرس الساسانيين، ونجاح الإمبراطور هرقليوس في استعادة "الصليب الحقيقي" الذي آمن المسيحيون مطوّلاً أنّه هو نفسه الذي صلب عليه السيد المسيح.
لأجل هذا، اعتقد المسيحيون في البداية أنّها شدّة جديدة وتزول، مثلها مثل الغزو الفارسي الساساني قبل ذلك، وأنّ الرّب يجرّبهم من جديد، إمّا لأنهم منقسمون في ما بينهم كنائس تكفّر بعضها بعضاً، وإما لأنّ إمبراطورهم، هرقليوس، منحرف عن العقيدة المسيحية القويمة في مسعاه للتوفيق، عبثاً، بين هذه الكنائس.
تعاملوا مع حماسة الفاتحين العرب ضدّ الصلبان كامتداد لانتزاع الفرس "الصليب الحقيقي" ونقله إلى عاصمتهم على نهر دجلة.
كانوا حتى عهد قريب يميّزون قبائل البادية بين تلك المتنصرة وتلك المتهوّدة وتلك الباقية على عبادة الأوثان، وهذا القسم الثالث بالذات كانوا يسمّونهم بأسماء عديدة، منها "الطياية"، أو الطائيون، وهو اسم سرياني للعرب الرّحل، ومنها "أبناء إسماعيل" و"أولاد هاجر" و"خدم سارة" نسبة إلى قصة ابراهيم وابن الجارية المصرية، وإبن الحرّة الكلدانية التي يرجّح أن تكون ابنة عمّه، في سفر التكوين.
اتهام المسيحيين للمسلمين بالوثنية والشرك
لكن الشدّة لم تَزُلْ سريعاً كما كان متوقعاً في البدء. وهكذا ظهرت فئات تنتظر نهاية سيطرة "الطياية" على المدن البطريركية الشرقية الثلاث أنطاكية والقدس والإسكندرية مع نهاية كل قرن.
وذلك سواء بنجاح البيزنطيين في استعادة هذه المدن والولايات، أو باعتناق القبائل العربية الغازية للدين المسيحي وتوبتها عمّا ظلّت تصفه المصادر المسيحية الشرقية بالوثنية وعبادة الأصنام والشرك والإلحاد لقرون طويلة.
فالمصادر المسيحية الشرقية التي كتبت عن الإسلام والمسلمين منذ أوّل الفتح وحتى سقوط القسطنطينية نفسها بيد الأتراك المسلمين، كانت تتبادل مع المسلمين التهمة نفسها إلى حد كبير.
المسلمون يتهمون النصارى بأنّهم منحرفون عن التوحيد، ما داموا يؤلهون عيسى المسيح، بل اعتبر المسلمون أنّ النصارى يؤلهون أمّه مريم (وهو ما ظلّ ينفيه المسيحيون، رغم قول أكثرهم، عدا النساطرة، بأنّ مريم هي "أم الله")، وبأنّهم يعبدون الصور.
والنصارى ظلوا لقرون طويلة يتهمون المسلمين هم أيضاً، ليس بالمبالغة في التوحيد، بل بعبادة الأوثان، وبأنّ الحجر الأسود في زاوية الكعبة هو رأس أفروديت، وبأنّ المسلمين يعبدون إلهاً في شكل جمل، وغيرها من الصور الكاريكاتورية التي ظلت تعج في ما كتبه المسيحيون، في الشرق، عن المسلمين، حتى بداية العصور الحديثة.
وقد نقلها عنهم المسيحيون في أوروبا اللاتينية ومزجوها مع تصورات أخرى، أكثر شيطنة للمسلمين، ما زالت مؤثرة في المخيال الشعبي المسيحي إلى اليوم.
أقوال جاهزة
شاركغردأول من كتب عن الفتوحات الإسلامية بين المسيحيين، اعتبر الغزوات بمثابة "عقاب ربّاني" للمسيحيين على ذنوبهم
ومنذ القرن السابع الميلادي، الأول الهجري، مال المسيحيون لواحدة من ثلاث نسخ: إمّا إعتبار الإسلام نسخة معدّلة عن الوثنية العربية القديمة، وإمّا نسخة مشوّهة عن الشريعة اليهودية، وإمّا نسخة منحرفة، بوحي من إبليس نفسه، عن الديانة المسيحية، واعتبارها تتضمن في نفس الوقت قبسات من الحقيقة الإلهية، إنما مساقة بشكل منحرف.
صعب على المسيحيين الإقرار بأن دين الإسلام ديانة قائمة بذاتها، وظلّت بين المسيحيين، حتى عهد قريب جداً، القرن التاسع عشر، تصورات تتوقع قرب نهاية الإسلام، وتنصّر معتنقيه.
الإسلام كعقاب رباني للمسيحيين
في كتابه المرجع، "الإسلام ونهاية الأزمان. التفسير النبوي للغزوات الإسلامية في المسيحية الوسيطية" (2007)، يظهر المؤرخ الفرنسي جان فلوري كيف ارتبطت تصوّرات المسيحيين عن الإسلام والمسلمين سريعاً بمحاولة إعطاء وظيفة "دينية" للإسلام، بالنسبة إلى تاريخ الخلاص المسيحي.
فأوّل من كتب عن الفتوحات بين المسيحيين، مثل القديس مكسيموس العارف، وبطريرك القدس صوفرونيوس، أسسوا لتقليد يعتبر هذه الغزوات بمثابة "عقاب ربّاني" للمسيحيين على ما اقترفوه من ذنوب وخطايا.
وشدّد مكسيموس العارف على التواطؤ اليهودي مع هذه الغزوات، كما لو كان الإسلام عملية ثأر يهودية من المسيحية، سمح بها الله لمعاقبة المسيحيين على انحرافهم عن المسيحية.
أما صوفرونيوس، بطريرك القدس، فيعتبر في نصوصه أن هؤلاء القادمين من الصحراء، يطمحون إلى "فتح العالم أجمع".
في الفترة نفسها تقريباً، وجدت نصوص مسيحية أخرى، أكثر تنبهاً للسمة الدينية للفتوحات، وبأن الغزاة يقودهم نبي (كان توفي قبل الانطلاقة الكبرى للفتوحات لكن هذه المصادر المسيحية المعلّقة بشكل مبكر على سقوط ولاياتها الشرقية بيد القبائل العربية لم يظهر عليها أنها تعي ذلك)، يعدهم بمفاتيح الجنّة.
الجدير ذكره هنا أنّ سردية "العقاب الربّاني" للمسيحيين بسيوف أبناء اسماعيل وهاجر، يمكن اقتفاء أثره أيضاً، في نصوص بيزنطية سابقة بقرن على ظهور الإسلام نفسه.
الإسلام بداية نهاية الأزمان
لكن "الوظيفة الدينية" للفاتحين لم تنحصر في هذه المصادر بعقاب المسيحيين على انقساماتهم وانحرافاتهم.
فصوفرونيوس المقدسي أفتتح تقليداً لاهوتياً مسيحيأ طويلاً يرى في ظهور الإسلام علامة على اقتراب الساعة، والأحداث المنبأ عنها في سفر الرؤيا.
اعتبر مثلاً أنّ بناء مسجد مكان الهيكل الذي أنبأ المسيح بقرب نهايته، ودمّر بعد ذلك بالفعل، يعني بداية العدّ العكسي لاقتراب الساعة.
هذه النظرة اللاهوتية للإسلام كبداية نهاية الأزمان سيطورها القديس يوحنا الدمشقي أيضاً، وهو الذي عمل في الإدارة المالية الأموية بدمشق، وعرف المسلمين عن كثب، واطلع على السور القرآنية.
في كتابه "الهرطقات" عدّ يوحنا الدمشق ديانة السراسنة (خدام سارة)، آخر هذه الهرطقات.
مع ذلك، قلّة من المصادر المسيحية أعتبرت النبي محمد نفسه هو "الأنتي كريست" المذكور في سفر الرؤيا بالعهد الجديد. ليس محبة بنبي الإسلام طبعاً، بل لأن هذه المصادر كانت تتوقع أنّ يكون ظهور ديانة السراسنة القديمة الجديدة هذه هي المرحلة الأولى من زمن النهايات، وتعقبها مرحلة الانهيار السريع لهذه الديانة، ومن بعدها ظهور المسيح الدجال، ثم عودة المسيح الحقيقي.
وحتى آخر يوم من عمرها، ظلت الإمبراطورية البيزنطية تعتقد بدنو موعد التنصير الشامل للمسلمين، ويتجادل لاهوتيوها حول صيغة "طقس الجحود" الذي يلزم للمسلم المرتد عن دينه إلى المسيحية أن يتلوه.
وعلى الرغم من أنّ عرض نماذج عن "طقس الجحود" هذا قد يكون صادماً اليوم بالنسبة إلى العامة من الناس، إلا أنّ المؤرخ آلان دوسلييه يتنبه إلى النصف الممتلىء من الكأس، وهي أن البيزنطيين ظلوا يتعاملون مع "الإسلام كبيئة محتملة لإنتاج المسيحية".
أما المسيحية الغربية، فقد نقلت عن المسيحية البيزنطية، هذه النظرة التي تربط الإسلام بنهاية الأزمان، وراودتها محاولة انهاء الإسلام نفسه، منذ استعادة صقلية حتى استعادة الأندلس، مروراً بالحروب الصليبية، لكن النظرة صارت استئصالية جدياً عند البرتغاليين، الذين استهدف أسطولهم الجزيرة العربية والبحر الأحمر في مطلع القرن السادس عشر، بتصميم على غزو الحجاز نفسه.
التعويل على تنصّر السلطان العثماني
حتى بعد فتح السلطان العثماني محمد الثاني لمدينة القسطنطينية، هذا الفتح الذي اعتقد العرب سابقاً بأنّه لن يتمّم إلا في نهاية الأزمان (ولأجل ذلك يعتبره تنظيم "داعش" لم يحصل بعد)، فقد استمر الكرسي البطريركي الأرثوذكسي في العاصمة العثمانية يعوّل على تنصّر السلطان نفسه.
أوّل بطريرك عيّنه محمد الفاتح، جينادوس سخولاريوس، مباشرة بعد ضياع ملك البيزنطيين، ظل يراهن على ذلك.
وعندما طلب منه محمد الفاتح كتابة ملخص عن الديانة الأرثوذكسية، تحمّس البطريرك وكتب ملخصه تحت عنوان "حول الدرب الوحيد لخلاص البشر"، اعتبر فيه أنّ لا دين موحى به بعد الدين المسيحي، وقدّمه للسلطان.
بيد أنّ آلان دوسلييه ينبه في نفس الوقت إلى أنّ هذا التيار الذي ظلّ يتوقع تنصر سلطان عثماني بعد آخر، كان يوازيه تيار آخر داخل وخارج الإمبراطورية العثمانية، أخذ يعي أكثر فأكثر أهمية التوفيق والوفاق بين الإسلام والمسيحية، ويذهب أحياناً إلى اقتراح صيغ لتحقيق الوحدة بين الديانتين، بدلاً من ابتلاع إحداهما للأخرى.
الاحتقان والتفاعل الصحيّ
هل تبدّلت نظرة المسيحيين اليوم إلى الإسلام والمسلمين بشكل عميق وجذري عمّا كانت عليه في عصر الفتوحات الكبرى، وعمّا كانت عليه بعيد فتح العثمانيين للقسطنطينية؟
هل ما زالوا يرون الإسلام كـ"عقاب رباني" على ذنوبهم وخطاياهم كمسيحيين، وكبداية نهاية الأزمان؟ هل ما زالوا يتوقعون أن ينهار الإسلام سريعاً، وأن يتنصر المسلمون بشكل أو بآخر؟
من السهل القول بأنّ المسيحيين لم يعودوا يعوّلون على كل ذلك. ومن الأصعب الاعتراف بأنّهم لم يقطعوا تماماً مع هذه التصوّرات القديمة.
إلى حد كبير، ما زال النظر إلى الإسلام إما كوثنية عربية "متحولة"، وإما كيهودية مشوّهة، وإما كمسيحية منحرفة ذهبت بعيداً، مؤثراً بقوة على الطريقة التي يرى بها المسيحيون الإسلام والمسلمين، سواء في الثقافة الأكاديمية أو في الثقافة الشعبية.
أكثر من ذلك، النظرة بأنّ نهاية التطرّف الإسلامي ستكون نهاية للإسلام نفسه هي نظرة يتقاسمها كثر في عالم اليوم من مشارب شتى، وهي نظرة تمدّ الحركات الجهادية بالطاقة والاندفاعة.
وإذا كان القديس مكسيموس العارف، يربط الغزوات العربية في زمنه، بالتواطؤ اليهودي معها، فإنّ النظرة المحتقنة المنتشرة اليوم، بأنّ الديانتين الكتابيتين، اليهودية والمسيحية، في جانب، والديانة ما بعد الكتابية، القرآنية، في جانب آخر، تعرقل التفاعل الصحي بين أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث، مثلها مثل النظرة التي تعتبر الإسلام والمسيحية حليفين "مريميين" في مواجهة اليهودية كديانة، التي حاول أن يحسنها بعض المسيحيين العرب في وقت من الأوقات..