تمددت «السلفية الجهادية» الى كردستان إيران قبل عشرين عاماً، في منتصف التسعينات واستمالت الايديولوجيا هذه مؤيدين لها في المناطق السنّية. وأدت ثلاثة تطورات دوراً بارزاً في انتشار الايديولوجيا هذه: إرساء إمارة طالبان في أفغانستان، وإنشاء معسكرات تدريب «القاعدة» في أفغانستان، وبروز «أنصار الإسلام» في المناطق العراقية الكردية في أورامان على حدود كردستان إيران. وحملت «جماعة التبليغ» (تبليغي جماعة) الى كردستان العراق من طريق باكستان، واستمالت بعضهم في أوساط الأقلية البلوشية. ولم يتأثر هذا الضرب من السلفية بالسيد قطب.
وسياسات النظام الإيراني الرامية الى تقويض المشاعر القومية واليسارية كانت عاملاً بارزاً في بروز الإسلام السياسي في كردستان إيران، وهذا يصح تحديداً حين تناول الكلام، أحزاباً ومجموعات، مثل «مدرسة القرآن» (Maktab e quran) في كردستان و «الدعوة والإصلاح»، وهي مجموعة متحدرة من «الإخوان المسلمين». وأنشئت هذه المجموعات إثر «الثورة الإسلامية» في 1979 رداً على أنشطة الأحزاب القومية واليسارية في دوائر العلانية. وفي الأشهر التالية على الثورة، كانت «مدرسة القرآن» مقربة من نظام الجمهورية الإسلامية. وأُبرم اتفاق بين أحمد مفتي زادة وآية الله خميني يقضي بمنح كردستان نوعاً من الإدارة الذاتية تحت لواء مفتي زادة و «مدرسة القرآن»، إذا أفلح الإسلاميون في طرد اليساريين والأكراد القوميين من كردستان. وتعود موجة قمع «مدرسة القرآن» الأولى الى مطلع الثمانينات، حين انتقلت «المدرسة» هذه الى مدينة كرمانشاه، وأنشأت مجلس «شمس» أو «المجلس السنّي المركزي». وكان دور مفتي زادة بارزاً في تنظيم المجلس هذا واختيار أعضائه. ولكن موجة القمع الثانية وقعت إثر عامين على وفاة مفتي زادة في شباط (فبراير) 1993. والموجة هذه متواصلة الفصول الى اليوم، على رغم أن ما يدعو اليه «مكتب القرآن» بالغ الليبرالية مقارنة بالجماعات التكفيرية. وإثر إطلاق سراحه من السجن، كان خطاب مفتي زادة بمثابة ثورة ايديولوجية تقضي بعدم استهداف الكفار في أصقاع العالم. ولكن قمع «مدرسة...» كان وراء موجة جديدة من القومية في كردستان إيران. وفي 2001، وصل أبو مصعب الزرقاوي -وصار لاحقاً زعيم «القاعدة في بلاد ما بين النهرين»- الى إيران من أفغانستان من طريق سيستان وبلوشستان.
وبروز السلفية في كردستان وإفساح المجال أمام الحركة هذه وثيق الصلة بتهميش القومية الكردية. وفهم ما جرى يقتضي الكلام عن «أنصار الإسلام». ففي 2001، أنشأت مجموعة «أنصار الإسلام» المتطرفة «إمارة بيارة الإسلامية»، على مقربة من حلبجة في كردستان العراق. وكان «أنصار الإسلام» وراء عدد من العمليات الإرهابية وقطع الرؤوس في السليمانية وأربيل. وسيطرت المجموعة هذه على مناطق الى حين الاجتياح الأميركي العراق في 2003. فاستقبلت «الجمهورية الإسلامية» في كردستان إيران عناصر من «أنصار الإسلام» نجوا من الاحتلال الأميركي وعملية تطهير «إمارة بيارة..». واستُجوب بعض قادة المجموعة هذه، واستقر كثر منهم في مدن كردستان إيران. ومذ ذاك صار وجود «السلفية الجهادية» في كردستان إيران، وازناً. فتعاونت مجموعات صغيرة من السلفيين في المنطقة مع «أنصار الإسلام»، ونشرت دعايتها السياسية في عدد من المدن.
ولا يغفل أن الجهاديين الأكراد أدخلوا الزرقاوي الى كردستان إيران. وحل عليهم ضيفاً لثمانية أشهر. وحدث أن اعتقلت «الجمهورية الإسلامية» الزرقاوي واستجوبته. وكان عليه طوال أسابيع، أن يقصد صباح كل يوم بلدات في الشمال الغربي، مثل بوكان وساغيز، لاستكمال الاستجواب. ثم روفق عبر الحدود في ماريوان (Mariwan) الى «إمارة بيارة» الواقعة في قبضة «أنصار الإسلام». وساعدته المجموعة هذه، فوسعه قصد بغداد ليؤسس أول تنظيم «جهادي» في المناطق العربية في العراق. وكان التنظيم وأنشطته سريين. وإثر سقوط نظام صدام حسين، شكل الزرقاوي تنظيماً أكبر، «جماعة التوحية والجهاد» الذي عرف لاحقاً بـ «القاعدة في بلاد ما بين النهرين». وفي مطلع ربيع 2003، انقسم «أنصار الإسلام» في إيران الى ثلاث مجموعات، منها «كتائب كردستان» التي بايعت في وقت لاحق الزرقاوي، وانتقل بعض عناصرها الى العراق وبقي قسم آخر في إيران لتوسيع التنظيم وإدارة معسكر تدريب على مقربة من سربول الذهب حيث يكتسب المتدربون مهارات عسكرية مثل إعداد القنابل، ويرسلون الى كردستان العراق وحلبجة. وتصدرت أولويات «كتائب كردستان» نشر مكامن متفجرة للبيشمركة العراقية وحرس الحدود في كردستان العراق، وشن عمليات إرهابية في أربيل والسليمانية. وكان التنظيم هذا وراء محاولة اغتيال الملا بختيار.
واللافت أن بروباغندا هذه التنظيمات وتدريباتها وعبورها الى كردستان إيران كانت علانية. وعلى رغم إجراءاتها الأمنية، لم تخشَ أجهزة «الجهمورية الإسلامية». وكانت الأجهزة الإيرانية الاستخباراتية مطلعة على أنشطتها كلها. وفي 2007، يقول سلفيون أن اتفاقاً أبرم بين إيران وحكومة كردستان العراق، أدى فيه «الحرس الثوري» دور الوسيط. وحملت الحكومة الإيرانية «كتائب كردستان» على وقف عملها في كردستان العراق والانتقال الى أفغانستان. وإثر صدوع قادة «الكتائب» بضغوط الحرس الثوري، انشقت صفوفها، ورفض عدد من أعضائها الاتفاق، وأنشأوا «جيش صلاح الدين». وشن «الجيش» هذا عدداً من العمليات في المناطق الحدودية من كردستان العراق. وبعد عدد من العمليات، حذرت «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» «الجيش» هذا من مواصلة العمليات في كردستان العراق، واتصلت «كتائب كردستان» والحرس الثوري بقادته، فوافق على وقف العمليات. وبعدها عاد عناصر «جيش صلاح الدين» الى إيران، ونُزع سلاحهم، وفرط عقد تنظيمهم. ووقع انشقاق ثانٍ في «كتائب كردستان». وخلصت مجموعة سلفيين أكراد إيرانيين الى ان قادة «الكتائب»، ومعظمهم من أكراد العراق، مقربون من الجهاز الأمني الإيراني والحرس الثوري. وسعى سلفيون إيرانيون أكراد الى الإمساك بمقاليد «كتائب كردستان»، ولكنهم اخفقوا. فانشقوا عن التنظيم وأنشأوا «التوحيد والجهاد» في 2009. وتصدر النظام الإيراني لائحة أهداف التنظيم هذا، و95 في المئة من عناصره من الإيرانيين الأكراد. وشن «التوحيد والجهاد» عمليات في عدد من البلدات والمدن الإيرانية الكردية، ونفذ عمليات سرقة مسلحة في متاجر مجوهرات في همدان وزانجان، واغتال الملا برهان علي، أمام جامع سنندج، وغيره من رجال الدين. وفي 2012، أفلحت أجهزة الاستخبارات الإيرانية والحرس الثوري والشرطة في وقف عمليات «التوحيد والجهاد».
واليوم، أنشطة المجموعات الجهادية في إيران صارت سرية. ولكن النظام الإيراني نجح في توجيه دفة أنشطتها الدعوية السياسية. وتلتزم طهران الشدة مع هذه التنظيمات، سواء كانت «أنصار الإسلام» أو «القاعدة» أو «داعش». ولكنها لا تلاحق عدداً من علماء الدين المتشددين من أمثال الملا علوي في بوكان، وتلاحق الأقل نفوذاً في أوساطهم.
وعلى رغم أن وزارة الاستخبارات الإيرانية أعلنت أسماء شخصيات «داعشية» مثل سارياس صادقي، لم تلاحقهم، فإيران تريد فحسب أن تغادر التنظيمات الجهادية والإسلامية أراضيها. وبين 2007 و2011، غادر كُثُر من سلفيي كردستان والمناطق السنية الى بلدة في أفغانستان يسيطر عليها كل من «القاعدة» و «طالبان». واثنان من إرهابيي هجمات طهران التحقا بـ «داعش» وحاربا في سورية، ثم سلما نفسيهما الى «الجمهورية الإسلامية» وأعلنا التوبة. وحين عودتهما الى إيران، اعتقلا لثلاثة أشهر قبل الإفراج عنهما. وتزعم وزارة الاستخبارات الإيرانية انها أردت زعيماً داعشياً اسمه ابو عايشة أو أبو عائشة الكردي. وهذه أكاذيب. ولم يسقط أحد يحمل الاسم هذا في إيران على يد الأمن الإيراني. وأبو عائشة هي كنية شخص اسمه فاتح كردستاني أو اسماعيل محمد من كردستان العراق، وكان مسؤولاً كردياً بارزاً في «داعش». وفي صيف 2016، أفلح وغيره من العناصر الأكراد في «داعش» في التسلل الى حلبجة ومنها الى كردستان إيران. وأردت قوات «الاتحاد الوطني» الكردستاني أبو عائشة في العراق. ولكن ما حصل في طهران يحاكي عملياته. ومن نفذ الهجمات سار على خطاه. وأهدى موقع «داعش» الهجمات الى أبو عائشة. وبعض البلوش وأشخاص من تالش في جيلان والصحراء التركمانية، التحقوا بـ «داعش». وسيد محمد قريشي من بلدة شالغون في تالش كان قائداً بارزاً في «داعش»، ثم عاد الى إيران وندد بالتنظيم في مقابلات. وبلغني أن بعض الشيعة من محافظة فارس تحولوا الى المذهب السنّي، والتحقوا بـ «داعش».
* سجين كردي سياسي سابق، باحث، عن مــوقع «إيــران وايــر» الإيراني، 13/6/2017، إعداد منال نحاس